الثلاثاء , نوفمبر 28 2023

“الشيخ إمام” الحب الذي لم يتب

“الشيخ إمام عيسى” اسم عند ذكره تنطرب الآذان بصوت الحق وبالطرب الجميل وبأوجاع المصريين والعرب، ونستحضر الإرادة والقوة والإبداع.

 

حياة الشيخ إمام:

ولد الشيخ إمام “إمام محمد أحمد عيسى” في 2/7/1918 بمصر في قرية “أبو النمرس” بمحافظة الجيزة، كَبُرَ في أسرة فقيرة توفي فيها 7 أولاد حتى جاء “الشيخ إمام” وكان أول من يعيش وجاء بعده أخ وأخت.

بدأت معاناته في عامه الأول عندما أصيب بمرض ” الرمد الحبيبي” الذي أفقده بصره مبكراً بسبب الجهل آنذاك وعدم التطبيب الصحيح لحالته.

 

بعدها بدأ بحفظ القرآن الكريم طوال فترة طفولته حتى بلغ الـ12 من عمره وتعلّم على يد الشيخ ” عبد القادر ندا” رئيس الجمعية الشرعية بقريته، وكانت هذه الجمعية تتولى الفقراء ويعيش فيها عدد من المقرئين ورجال الدين الفقراء، أسسها في بداية القرن العشرين الشيخ محمود خطاب السبكي وكانت علاقته جيدة معه.

وكان للشيخ إمام ذاكرة قوية، وبدأ مع الجمعية بناءً على رغبة والده بأن يصبح ابنه شيخاً كبيراً.

 

ويقول الشيخ إمام أنه بعد أن حفظ القرآن وفَهِمَهُ وجوَّدَهُ بدأ يكتشف فيه كل يوم عالماً لانهائياً من الموسيقى والألحان والشعر، وعبّر عن هذا الشعور: ” حين أقرأ القرآن أشعر أن علاقة ما تقوم بين الأرض والسماء وأنني أُسهم فيها..”.

عَمِلَ “إمام” منشداً مع الجمعية لأنهم رأوا أن صوته يصلح لذلك، قضى مع الجمعية خمس سنوات قبل أن يُطرَد تعلّم فيها الكثير.

وسبب الطرد كان لأنهم رأوه يستمع للقرآن عبر الراديو، وحينها كان الشيخ السبكي متوفي واستلم الجمعية بعده ابنه ومجموعة من علماء الدين المتزمّتين الذين يعتبرون الراديو وسماع القرآن عليه فيه امتهان لكلمة الله ومن الموبقات.

 

وظلّ بعدها مشرداً بلا أي مأوى ولا مورد، وحاول الرجوع وطلب الغفران والسماح ولكن لم يسمحوا له ولم يغفروا له، وأصبح يقضي نهاراً متجولاً في الشوارع وفي الليل يذهب لجامع الأزهر.

وأصبح يقرأ القرآن في البيوت والدكاكين مقابل الطعام والنقود لكي يعيش، وسكن وقتها في حجرة صغيرة بحي الغورية القديم في القاهرة.

 

لم يعش الشيخ إمام في حنان الأب بسبب قسوة أبيه عليه في المعاملة، وكانت أمه تعوّض له هذا الحنان وعن فقدانه لبصره، حيث عندما عَلِمَ والده بنبأ فصله من الجمعية قام بضربه ومنعه من العودة للقرية لأنه اعتبره قام بفعل جرمي ومخجل.

وعندما توفيت أُمِّهِ لم يستطع حضور جنازتها بسبب منعه من دخول القرية، ولم يعد حتى توفي والده، وتزوج مرة واحدة بطلب من والدته ولكن لم يستمر هذا الزواج سوا شهر واحد ولم يتزوج بعدها.

 

بداية مشواره الفنّي:

تعرّف الشيخ إمام على الشيخ درويش الحريري واحد من كبار علماء الموسيقى، وعلّمه الموسيقى بعد أن سمع صوته وأطربه.

وبدأ يأخذه معه على جلسات الإنشاد والطرب، والتقى حينها بـ زكريا أحمد والشيخ محمود صبح والكثير من المقرئين والمطربين الذين يعيشون في حوش قدم “حوش آدم بالعاميّة” والفحامين؛ وهذه كانت نقطة التحول في حياته.

 

بدأ العمل مع الشيخ زكريا أحمد أحد الملحنين الذين حافظوا على تراث الأغنية العربية من الهبوط، حيث لحّن زكريا احمد للسيدة أم كلثوم فـكان الشيخ إمام يحفظ اللحن ويؤديه.

كانت ألحان أم كلثوم التي لحّنها زكريا أحمد والتي يحفظها الشيخ إمام تتسرب كـ ” أنا في انتظارك – أهل الهوى – آه من لقاك في أول يوم – الأوله في الغرام” واستغنى عنه حينها زكريا.

 

بالإضافة لذهابه لحفلات الختّان والأفراح ويغني هناك كهاوي وليس كمحترف أو مشهور ولم يكن متعلماً بعد العزف على العود، حيث التقى بعدها بعازف العود الكفيف كامل الحمصاني ولازمه في جميع حفلاته وأصبح يعلّمه العزف حتى احترفه؛ ولم يتجاوز العشرون من عمره حينها.

وقال إمام عن هذه اللحظة: ” في إحدى الليالي وجدت رجلاً كفيفاً يعزف وكنت من قبل أخشى حتى أن أسأل عن إمكانية ذلك؛ كان اكتشافاً ملأني أملاً وثقة”.

بدأ يعزف وهو يرتدي العمة والكاكولا – الزي الذي يرتديه الفقهاء -. ومن هنا كانت بداية الشيخ إمام بالابتعاد عن القرآن وذهب باتجاه الغناء.

في سنة 1954 ترك الشيخ إمام زي الفقهاء وارتدى الزي المدني بعد أن بدأ الغناء مع الإذاعة وكان شرطهم هو خلع هذا الزي، واستمر بالغناء فقط دون محاولته في التلحين، وكان يغني حينها ألحان زكريا أحمد وسيّد درويش.

 

الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم والفن الذي وُلِدَ من رحم المعتقلات:

التقى الشيخ إمام بأحمد فؤاد نجم عام 1962 وهنا كانت بداية العَظَمَة.

استمع نجم إلى إمام وعندها غنى له “إيمتى الهوى يجي سوا” ورأى به أستاذ متمكّن، وبدأ إمام بالغناء ونجم يردّ عليه ويغني معه، ولاحظ أن إمام يغني أغنية وعندما يعيدها يقوم بغناءها بطريقة مختلفة ف قال له: “إيه ده إنتا بتبدع ياشيخ إمام” وسأله ” إنتا ليه مابتلحنش؟” استحى الشيخ إمام أن يقول له أنه لا يتجرأ أن يلحّن فأجابه “مش لاقي كلام محترم”.

وأعطاه نجم أغنية كان قد كتبها لبليغ حمدي ليلحنها لأم كلثوم -بحسب قوله-، أخذها إمام ولحنها وعندها كانوا مجتمعين عند “سعد الموجي”، ف كتب حينها نجم “أنا توب عن حبك” ولحنها إمام في نفس الليلة وظلّوا الليل بطوله يغنوها، وأخذت هذه الأغنية شهرة واسعة وغناها الكثير من المغنيين بعده، جاء في الأغنية:

زي ما يحلالك زي هواك

سهرني عليك

سهرني معاك

ده أنا عمري ماخاف من هجرك يوم

ولا قلبي بيفرح وأنا وياك

وإن كان أمل العشاق القرب

أنا أملي ف حبك هو الحب

وإن غبت سنة

أنا برضو أنا .. لا اقدر أنساك

ولا ليا غنى .. ولا أتوب عن حبك أنا.

واكتشف “إمام” أنه يستطيع كقارئ للقرآن أن يفعل الكثير ويستطيع أن يصبح ملحناً وقال: “القرآن كنز لا ينتهي”.

 

أحمد فؤاد نجم الملقب بـ”شاعر تكدير السلم العام” وبـ “الفاجومي المصري” لم يكن مجرد شريك فن لإمام، بل كان صديقه وشريك المعتقلات والقضايا الواحدة والألم الواحد.

بدأت أغانيهما عن تمجيد أبطال العسكر المصري ثم انتقلوا لانتقاد الوضع الاقتصادي، تجاهلت الحكومة أغانيهم لفترة، بعدها جاءت نكسة حزيرن 1967 التي برّأت المسؤولين في هذه الهزيمة الكبرى عندها أطلقوا أغاني فيها هجوم على الحكّام وعن تبرئتهم ليتمّ القبض عليهما بتهمة تعاطي الحشيش عام 1969 وأطلق سراحهما حينها لعدم كفاية الأدلة، ليُعتَقلوا مرة ثانية وحُكِمَ عليهما بالسجن المؤبد ليصبح الشيخ إمام أول “موسيقي” يُعتقل بسبب لحنه.

كتب حينها “نجم” أغنية “شيّد قصورك” ولحنها “إمام” في المعتقل لترتبط الأغنية بـ سجنهما، جاء في الأغنية:

شيّد قصورك ع المزارع

من كدنا وعمل إيدينا

والخمارات جنب المصانع

والسجن مطرح الجنينة

واطلق كلابك في الشوارع

واقفل زنازينك علينا

وقلّ نومنا في المضاجع

أدي احنا نمنا ما اشتهينا

 

بدأت شهرتهما بالانتشار لافتين أنظار الصحفيين بعد أغنية “أنا توب عن حبك” وبعدها “عشق الصبايا – ساعة العصاري” وغيرهم من الأغنيات التي لامست قلوب الناس وأحوالهم.

وبلقاء تلفزيوني قبل وفاة “نجم بسنوات قليلة تكلّم عن علاقته مع الشيخ إمام، قال: ” كنت بحميه وبخاف عليه أوي ونحنا ماشيين الصبح في الشارع كنت أوصفله احنا فين وكأنه بيشوف بعينيه … أنا كنت عينيه فعلاً”.

وألقى قصة حدثت معهم ليوصل كم كان يحب إمام: ” كنا أول مرة في القلعة كان في ضابط غبي هجم على إمام ليضربه على وشّو بالعصاية، ركضت بسرعة وقفت قدامه عشان تنزل العصاية على وشّي، وماحسستهوش إني تألمت عشان مايخاف، ولم يعرف بالقصة حتى خرجنا من القلعة حكيتله”.

مضيفاً: “إمام فنان كبير… أنا كنت عينيه اللي بشوف بيها وهو كان صوتي”.

وأوضح “نجم” أنه من حُسن حظهما أن إمام تتلمذ على يد مشايخ الموسيقى، وكان هناك تنبؤ في أغانيهما بالثورة القادمة.

 

في سجن القلعة عندما كانوا محكومون مؤبد أطلقوا أغنية “يافلسطينية” بعد اتفاقية كامب ديفيد، رافضاً هذه الاتفاقية لأنها تسلب حق الفلسطينيين، وكان إمام يغني شيّد قصورك عندما كانوا ينقلوهم من سجن لآخر، وعام 1981 أطلق سراحهما عقب اغتيال أنور السادات. كلماتها:

يا فلسطينية
والبندقاني رماكو
بالصهيونية تقتل حمامكو في حداكو
يا فلسطينيه وانا بدي اسافر حداكو
ناري في ايديا
وايديا تنزل معاكو
على راس الحية
وتموت شريعة هولاك

وعن أكتر أغنية يحبها “نجم” من أغانيهما كانت “ياحبايبنا فين وحشتونا” حيث قال عنها: “أكتر أغنية بحبها ياحبايبنا فين وحشتونا لأنه إمام كان بيحب وحدة في حوش قدم فـ قلي حبايبنا وحشونا قلتلو طب اعمل إيه؟، فـ رحت كاتب بيه ياحبايبنا وهو ملحنها”.

وجاء في الأغنية:

ياحبايبنا فين وحشتونا

لسا فاكرينا … ولّا نسيتونا

ده احنا في الغربة

من الهوى دبنا

وأنتو في الغربة

أوعوا تفكروا إننا تبنا

مهما فرقونا .. ولّا بعدونا .. ياحبايبنا

 

وكانت أغنية “شرّفت يانيكسون بابا” سبباً بملاحقة الأمن لهم، حيث كتبها “نجم” ولحنها إمام بعد أول زيارة للرئيس الأميركي “نيكسون” إلى مصر عام 1974، والتي استفزت السلطات المصرية وخصوصاً المقطع الثاني منها جاء به:

جواسيسك يوم تشريفك على كيفك نصبوا الزار

تتقصع فيه المومس والقارح والمندار

والشيخ شمهورش راكب ع الكوديا وهات يامواكب

وبواقي الزفة عناكب

ساحبين على حسب الصيت .. طبعاً

وأهو مولد ساير داير شي لله ياصحاب البيت.

 

في المعتقل كانوا الجنود والضباط يستمعون للشيخ إمام وهو يغني، وفي التحقيق معه كانوا يسألوه عن مغزى ومعنى مايقول فكانت شهاداته التي يدلي به وأقواله هي أغانيه.

واتسعت فرقتهم وانضم إليها عازف الإيقاع “محمد علي” وكوّنوا هؤلاء الثلاثة فرقة تأليف وتلحين وغناء لن تتكرر.

 

ويظلّ اسم الشيخ إمام رمز للحرية والمعاناة والمقاومة، غنى للحب في “أنا توب عن حبك أنا” ولم يتوب عن ذاك الحب رغم تعرضه للتوقيف فغنى “يا فلسطينية” وظل يغني بالصوت الذي صدح بكل قضايا العرب وأوجاعها، عرف بعض أغانيه الجيل الجديد من خلال أداء قلة من المطربين له، دون معرفة مباشره به، وبرحيله خسر الفن الملتزم أهم أبناءه المؤسسين، تاركا فراغ لم يستطع أحد ملأه بعد.

 

 

إعداد وتحرير: غرام زينو

عن غرام زينو

محررة في الصحافة الرياضيّة، تدرس في كلية الحقوق في جامعة تشرين. ترجمت عدّة مواد من الإنجليزية للعربية.